آخر الأخبار

الطقس في المغرب

الطقس في المغرب
الطقس في المغرب

المتابعون

أرض فلسطين وشعبها::هل باع الفلسطينيون أرضهم؟ وتخلوا عنها لليهود؟!

Posted by Mohamed Alami ~ 22.4.13

 

د. محسن محمد صالح
الأستاذ المشارك في الدراسات الفلسطينية
وتاريخ العرب الحديث

حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
مايو 2002
كوالالمبور ـ ماليزيا

سألني ذات مرة أحد أساتذة الجامعات العرب على استحياء هذا السؤال: هل باع الفلسطينيون أرضهم، وتخلوا عنها لليهود؟ ولم يكن ليسأل لولا أن الصلة توثقت بيننا، وعلم أنه لن يُحرجني بسؤاله. والواقع أنني لم أحرج من سؤاله، ولكن ما أثار استغرابي أنه أستاذ في التاريخ الحديث، وممن أسهموا في إعداد مناهج التاريخ في بلده العربي، وفيها مباحث عن فلسطين!! فهمت بعد ذلك أن هذا السؤال يتردد في صدور الكثيرين، ويجدون حرجاً في إثارته، وعرفت كم يقصر الفلسطينيون، والمتخصصون في الدارسات الفلسطينية في شرح القضية بشكل سليم وموضوعي، ليس للعالم وإنما حتى لأبناء جلدتهم ودينهم.

تُركِّز الدعاية اليهودية الصهيونية على أن الفلسطينيين هم الذين باعوا أرضهم لليهود، وأن اليهود إنما اشتروها "بالحلال" من أموالهم، فلا ينبغي للفلسطينيين أن يطالبوا بعد ذلك بها! ولعلنا نستطيع هنا إعطاء فكرة مختصرة عن الموضوع.

إن الدعاية الصهيونية في بداياتها ومنذ القرن التاسع عشر ارتكزت على فكرة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، مُعتبرةً أنه لا يوجد شعب في فلسطين، وأن من حق اليهود الذي لا يملكون أرضاً أن تكون هذه الأرض لهم. لكنهم ومنذ بوادر الاستيطان الأولى وجدوها عامرة بالحيوية والنشاط يعيش فيها شعب كادح متجذر في أرضه. ومن الطريف أن نذكر أنه في العقد الأخير من القرن التاسع عشر بعث ماركس نوردو أحد كبار قادة الحركة الصهيونية المقربين إلى هرتزل بحاخامين اثنين ليرفعا تقريراً إلى المؤتمر الصهيوني عن الإمكانية العملية للهجرة إلى فلسطين، وبعد أن رجعا، كتبا تقريراً جاء فيه:" إن فلسطين عروس جميلة وهي مستوفية لجميع الشروط، ولكنها متزوجة فعلاً"، أي أن هناك شعباً يسكنها وليست أرضاً بلا شعب.

لقد بدأت المقاومة الفلسطينية النشطة للاستيطان اليهودي في فلسطين منذ أن بدأ هذا المشروع بالظهور، ومنذ المراحل الأولى المبكرة له، في أيام الدولة العثمانية. فقد حدثت اصطدامات بين الفلاحين الفلسطينيين وبين المستوطنين اليهود 1886، وعندما جاء رشاد باشا متصرفاً للقدس وأبدى محاباة للصهاينة قام وفد من وجهاء القدس بتقديم الاحتجاجات ضده في مايو 1890، وقام وجهاء القدس في 24 يونيو 1891 بتقديم عريضة للصدر الأعظم (رئيس الوزراء) في الدولة العثمانية طالبوا فيها بمنع هجرة اليهود الروس إلى فلسطين وتحريم استملاكهم للأراضي فيها[64]. وقام علماء فلسطين وممثلوها لدى السلطات العثمانية، كذلك صحف فلسطين بالتنبيه على خطر الاستيطان اليهودي والمطالبة بإجراءات صارمة لمواجهته. وترأس الشيخ محمد طاهر الحسيني مفتي القدس سنة 1897 هيئةً محلية ذات صلاحيات حكومية للتدقيق في طلبات نقل الملكية في متصرفية بيت المقدس، فحال دون انتقال أراض كثيرة لليهود. وكان للشيخ سليمان التاجي الفاروقي الذي أسس الحزب الوطني العثماني في سنة 1911 دوره في التحذير من الخطر الصهيوني، وكذلك فعل يوسف الخالدي، وروحي الخالدي، وسعيد الحسيني ونجيب نصار[65].

ورغم أن السلطان عبد الحميد والسلطات المركزية أصدرت تعليماتها بمقاومة الهجرة والاستيطان اليهودي، إلا أن فساد الجهاز الإداري العثماني حال دون تنفيذها، واستطاع اليهود من خلال الرشاوى شراء الكثير من الأراضي، ثم إن سيطرة حزب الاتحاد والترقي على الدولة العثمانية وإسقاطهم السلطان عبد الحميد 1909، والنفوذ اليهودي الكبير بداخله، قد سهل استملاك اليهود للأرض وهجرتهم لفلسطين. ومع نهاية الدولة العثمانية 1918 كان اليهود قد حصلوا على حوالي 420 ألف دونم من أرض فلسطين اشتروها من ملاك إقطاعيين لبنانيين مثل آل سرسق، وتيان، وتويني، ومدور، أو من الإدارة العثمانية عن طريق المزاد العلني الذي تباع فيه أراضي الفلاحين الفلسطينيين العاجزين عن دفع الضرائب المترتبة عليهم، أو من بعض الملاكين الفلسطينيين ومعظمهم من النصارى أمثال عائلات روك، وكسار، وخوري وحنا. وقد غطت عمليات الشراء هذه نحو 93% من الأرض التي حصلوا عليها. وعلى أي حال، فإن الخطر الصهيوني لم يكن يمثل خطراً جدياً على أبناء فلسطين في ذلك الوقت، لضآلة الحجم الاستيطاني والسكاني اليهودي وللاستحالة العملية لإنشاء كيان صهيوني في ظل دولة مسلمة (الدولة العثمانية)[66].

وعندما وقعت فلسطين تحت الاحتلال البريطاني 1917 – 1948، كان من الواضح أن هذه الدولة جاءت لتنفيذ المشروع الصهيوني وإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد استثمرت كل صلاحيات الحكم الاستعماري وقهره لفرض هذا الواقع. وقد قاومت الحركة الوطنية الفلسطينية الاستيطان اليهودي بكل ما تملك من وسائل سياسية وإعلامية واحتجاجية، وخاضت الكثير من الثورات والمجابهات. وقد بلغ مجموع ما تمكن اليهود من الاستيلاء عليه خلال فترة الاحتلال البريطاني حوالي مليون و 380 ألف دونم أي حوالي 5.1% فقط من أرض فلسطين رغم ما جندته من إمكانات عالمية، ورؤوس أموال ضخمة، وتحت الدعم والإرهاب المباشر لقوة الاحتلال غاشمة. ولكن مهلاً! فمعظم هذه الأراضي لم يشتروها في الواقع من أبناء فلسطين! فالحقائق الموضوعية تشير إلى أن معظم هذه الأراضي تسرب لليهود عن طريق منح حكومية بريطانية لأراضي فلسطين الأميرية "أراضي الدولة"، أو عن طريق ملاك إقطاعيين كبار غير فلسطينيين كانوا يقيمون في الخارج، ومنعوا عملياً ورسمياً من الدخول إلى هذه المنطقة (تحت الاحتلال البريطاني) لاستثمار أرضهم إن كانوا يرغبون بذلك فعلاً.

فقد منحت السلطات البريطانية نحو 300 ألف دونم لليهود من الأراضي الأميرية دون مقابل، كما منحتهم 200 ألف دونم أخرى مقابل أجر رمزي، ففي عهد هربرت صموئيل أول مندوب سام بريطاني على فلسطين (1920 - 1925) وهو يهودي صهيوني، قام بمنح 175 ألف دونم من أخصب أراضي الدولة على الساحل بين حيفا وقيسارية لليهود، وتكررت هباته الضخمة على الأراضي الساحلية الأخرى وفي النقب وعلى ساحل البحر الميت[67].

وكان هناك أملاك إقطاعية ضخمة لعائلات حصلت على هذه الأراضي، خصوصاً سنة 1869 عندما اضطرت الدولة العثمانية لبيع أراض أميرية لتوفير بعض الأموال لخزينتها، فقامت بشرائها عائلات لبنانية غنية، وقد مثَّل ذلك وجهاً آخر للمأساة. فقد باعت هذه العائلات ما مجموعه 625 ألف دونم. فقد باعت عائلة سرسق اللبنانية أكثر من 200 ألف دونم من أراضي مرج ابن عامر للصهاينة وتسبّب ذلك في تشريد 2746 أسرة عربية هم أهل 22 قرية فلسطينية، كانت تفلح هذه الأراضي لمئات السنين. وتكررت المأساة عندما باعت عائلات لبنانية أخرى حوالي 120 ألف دونم حول بحيرة الحولة شمال فلسطين، كما باعت أسرتان لبنانيتان أراضي وادي الحوارث (32 ألف دونم) مما تسبب في تشريد 15 ألف فلسطيني. ومن العائلات التي قامت ببيوع كبيرة للأراضي لليهود في أثناء الاحتلال البريطاني: آل سلام، وآل تيان، وآل قباني، وآل يوسف، والصباغ، والتويني، والجزائرلي، وشمعة، والقوتلي، والمارديني، وكلها أسر لبنانية أو سورية. وقد بلغت نسبة الأراضي الزراعية التي باعها الملاك الإقطاعيون الغائبون خارج فلسطين خلال الفترة 1920 ـ 1936 ما نسبته 55.5% مما حصل عليه اليهود من أراض زراعية[68]. وعلى الرغم مما يتحمله من قام بهذه البيوع من أبناء هذه العائلات من مسئولية، فإن اللوم لا يقع بشكل كامل عليهم وحدهم، إذ إن السلطات البريطانية منعتهم من الدخول لاستغلال هذه الأراضي، بحجة أنهم أجانب، وذلك بعد أن تم فصل فلسطين عن سوريا ولبنان وفق تقسيمات سايكس- بيكو بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي.

أما مجموع ما تسرب إلى أيدي اليهود من أراض باعها لهم عرب فلسطين خلال الاحتلال البريطاني فكان حوالي 260 ألف دونم. وقد حصل اليهود على هذه الأراضي بسبب الظروف القاسية التي وضعت حكومة الاستعمار البريطاني الفلاحين الفلسطينيين فيها، ونتيجة لاستخدام البريطانيين لأسلوب نزع الملكية العربية لصالح اليهود وفق مواد من صك الانتداب البريطاني على فلسطين، والتي تخول المندوب السامي هذا الحق. كما حدثت حالات بيع بسبب ضعف عدد من الفلسطينيين ووقوعهم تحت الإغراءات المادية وليس من المستغرب أن توجد في كل زمان ومكان في أي بلد عربي أو غير عربي، فئات قليلة تضعف أمام الإغراءات ، لكنها على أي حال فئة منبوذة محارَبة من مجمل أبناء شعب فلسطين، وقد تعرض الكثير منهم للمقاطعة والتصفية والاغتيال خصوصاً في أثناء الثورة العربية الكبرى التي عمت فلسطين خلال 1936 ـ 1939.

وعلى هذا فإن مجموع ما حصل عليه اليهود من أبناء فلسطين حتى سنة 1948 لا يتجاوز 1% من أرض فلسطين، وخلال سبعين عاماً من بداية الاستيطان والهجرة المنظمة لفلسطين، وتحت ظروف قاسية. وهذا بحد ذاته يبرز مدى المعاناة التي لقيها اليهود في تثبيت مشروعهم وإنجاحه في فلسطين، ومدى إصرار الفلسطينيين على التمسك بأرضهم[69].

وقد قام أبناء فلسطين خصوصاً في الثلاثينيات من القرن العشرين بجهود كبيرة في محاربة بيع الأراضي، وكان للمجلس الإسلامي الأعلى بقيادة الحاج أمين الحسيني، وعلماء فلسطين دور بارز. فقد أصدر مؤتمر علماء فلسطين الأول في 25 يناير 1935 فتوى بالإجماع تحرِّم بيع أي شبر من أراضي فلسطين لليهود، وتعدُّ البائع والسمسار والوسيط المستحل للبيع مارقين من الدين، خارجين من زمرة المسلمين، وحرمانهم من الدفن في مقابر المسلمين، ومقاطعتهم في كل شيء والتشهير بهم[70]. وقام العلماء بحملة كبرى في جميع مدن وقرى فلسطين ضد بيع الأراضي لليهود، وعقدوا الكثير من الاجتماعات وأخذوا العهود والمواثيق على الجماهير بأن يتمسكوا بأرضهم، وأَلا يفرطوا بشيء منها. وقد تمكن العلماء من إنقاذ أراض كثيرة كانت مهددة بالبيع، واشترى المجلس الإسلامي الأعلى قرى بأكملها مثل دير عمرو وزيتا، والأرض المشاع في قرى الطيبة وعتيل والطيرة، وأَوْقف البيع في حوالي ستين قرية من قرى يافا. وتألفت مؤسسات وطنية أسهمت في إيقاف بيع الأراضي، فأنشئ "صندوق الأمة" بإدارة الاقتصادي الفلسطيني أحمد حلمي باشا ، وتمكن من إنقاذ أراضي البطيحة شمال شرقي فلسطين، ومساحتها تبلغ ثلاثمائة ألف دونم[71].

إن الخسارة الحقيقية لأرض فلسطين لم تكن بسبب بيع الفلسطينيين لأرضهم وإنما بسبب هزيمة الجيوش العربية في حرب 1948، وإنشاء الكيان الصهيوني – إثر ذلك – على 77% من أرض فلسطين، وقيامه مباشرة وبقوة السلاح بطرد أبناء فلسطين، والاستيلاء على أراضيهم، ثم باحتلال باقي أرض فلسطين إثر حرب 1967 مع الجيوش العربية، وقيامه بمصادرة الأراضي تحت مختلف الذرائع. وقد ظلت نظرة أبناء فلسطين حتى الآن إلى من يبيع أرضه أو يتوسط بالبيع نظرة احتقار وازدراء، وظل حكم الإعدام يلاحق كل من تُسوِّل له نفسه بيع الأرض، وقام رجال الثورة الفلسطينية بتصفية الكثيرين من هؤلاء على الرغم من حماية قوات الاحتلال الصهيوني لهم.

لم تسلم أوقاف المسلمين ومقدساتهم من عدوان اليهود الصهاينة عليها ومصادرتها ومحاولة محو آثارها. ففلسطين مليئة بالمقدسات والأراضي التي وقفها أصحابها لخدمة المسلمين وحاجاتهم كالفقراء والمساكين وطلبة العلم وعابري السبيل وخدمة المساجد. وتشكل الأوقاف في فلسطين نحو مليون و 680 ألف دونم (6.25 % من مساحة فلسطين)، وهي تمثل 10% من مجمل الأراضي الصالحة للزراعة، وهناك في فلسطين 340 قرية تُعدُّ وقفاً كلياً أو جزئياً، مثل قرى بورين وبيت فوريك، وشطا، وسعسع.

وفي الأرض التي احتلت سنة 1948 استولى اليهود على معظم الأوقاف بحجة أنها أملاك غائبين، وسلموها لبني دينهم الذين أقاموا عليها المستوطنات والمشاريع الزراعية والصناعية والتجارية. ولم تسلم حتى مساجد المسلمين ومقابرهم وآثارهم التاريخية من هذا العدوان. فقد تمت مصادرة معظم مساحة المسجد الإبراهيمي في الخليل وجعلت كنيساً ومزاراً لتعبد اليهود، واستولى اليهود على الحائط الغربي للمسجد الأقصى"حائط البراق" الذي يسمونه حائط المبكى، وصادروا حارة المغاربة الملاصقة له وهي أرض وقف وهدموا أبنيتها وجعلوها ساحة لزائري حائط مبكاهم. وحولوا مسجد الظاهر بيبرس في المجدل الذي بني قبل أكثر من 700 سنة إلى مطعم ، أما أشهر مسجد في يافا "مسجد السكسك" فقد حولوه إلى ناد لليهود من أصل بلغاري، وحولوا مسجد قيسارية إلى بار وخمارة، واستخدم المسجد الصغير في حيفا مكاناً للتحشيش والدعارة، وحول مسجد صفد إلى متحف للآثار ومكاتب سياحية. وهدموا مسجد الإمام الحسين ومقامه في عسقلان، وأنشأوا مكانهما مستشفى يهودياً. ولم تكن مئات المساجد الأخرى بأحسن حظاً من المساجد التي ذكرنا أمثلتها فتعرضت لمصائر مشابهة مثل مساجد عكا وطبريا وصفد وحوقين وأقرت وأبو كبير وسلمة وقبية وعمواس ولوبية وصرفند .. وغيرها[72].

ولم يرع اليهود الصهاينة حرمة مقابر المسلمين، ففي القدس بني على جزء من مقبرة مأمن الله "ماميلا"، فندق بلازا الفخم، وفتحت فيها شوارع وحول القسم المتبقي إلى حديقة عامة فوق قبور المسلمين، أما مقبرة يازور قرب يافا فقد صودر جزء لعمل شارع عليها، والباقي حول إلى مشاغل ومكان لتجميع النفايات. وتحولت مقبرة الشيخ مؤنس قرب يافا إلى مشاغل ومصانع، وبنيت على جزء آخر بنايات تتبع جامعة تل أبيب. أما مقبرة الاستقلال في حيفا فقد أزيل جزء منها ونبش حوالي ثلاثة آلاف قبر، وبني فندق سياحي مكانها. وقاموا بنبش قبر"مشهد" فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في قرية بني نعيم قرب الخليل، بحجة البحث عن بقايا أثرية، كما حاولوا نبش قبر الشيخ عز الدين القسام رمز الجهاد والوطنية في فلسطين في القرن العشرين.. وهذا غيض من فيض ... وما نذكر هنا ذكر على سبيل المثال لا الحصر[73].

احتل اليهود القدس الغربية في حرب 1948، (وهي تساوي نحو 84.1% من المساحة الكلية للقدس)، وقاموا بتهويد هذه المنطقة - التي تعود 85 % من ملكيتها للعرب - وبناء أحياء سكنية يهودية فوق أراضيها وأراضي القرى العربية المصادرة حولها، مثل قرية لفتا التي بُني عليها البرلمان الإسرائيلي "الكنيست" وعدد من الوزارات، وقرى عين كارم ودير ياسين والمالحة وغيرها.[74]
وفي عام 1967 أكمل الكيان الصهيوني احتلاله للقدس الشرقية، التي تُعدّ جزءاً من الضفة الغربية، والتي يقع فيها المسجد الأقصى. ومنذ ذلك الوقت بدأ حملة تهويد محمومة لشرقي القدس، فأعلن عن توحيد شطري القدس تحت الإدارة "الإسرائيلية" في 27 يونيو 1967، ثم أعلن رسمياً في 30 يوليو 1980 أن القدس عاصمة أبدية موحدة للكيان "الإسرائيلي".[75]
وقد كان التركيز على القدس مسألة مركزية في الفكر اليهودي الصهيوني؛ لما تمثله من أبعاد دينية وتاريخية، وقبل أن ينشأ الكيان الإسرائيلي بحوالي خمسين عاماً قال هرتزل، مؤسس المنظمة الصهيونية العالمية، "إذا حصلنا على مدينة القدس، وكنت لا أزال حياً وقادراً على القيام بأي عمل، فسوف أزيل كل شيء ليس مقدساً لدى اليهود فيها، وسوف أحرق جميع الآثار التي مرت عليها قرون"[76]، وكان المؤسس الفعلي للكيان الإسرائيلي وأول رئيس وزراء له ديفيد بن جوريون يقول "إنه لا معنى لإسرائيل دون القدس، ولا معنى للقدس دون الهيكل".

وقام الكيان الإسرائيلي بتوسيع نطاق بلدية القدس تدريجياً؛ ليتمكن من ضم مناطق أخرى من الضفة الغربية نهائياً إلى كيانه، وليقوم بعملية تهويد القدس على نطاق مبرمج واسع. فتوسع نطاق البلدية شرقي القدس من 6.5 كم2 سنة 1967 إلى 123 كم2 سنة 1990. أما خطة ما يسمى بالقدس الكبرى التي يطمح لتنفيذها فتشمل 840 كم2، أي نحو 15 % من مساحة الضفة الغربية. وفي نطاق بلدية شرقي القدس أنشأ الصهاينة طوقاً من 11 حياً يهودياً حول المدينة القديمة حيث المسجد الأقصى، يسكنها نحو 190 ألف يهودي. كما أنشأ طوقاً آخر ـ أكثر اتساعاً ـ حول القدس من 17 مستعمرة يهودية محاولاً قطع القدس عن محيطها العربي الإسلامي، وبالتالي قطع الطريق عن أي تسوية سلمية يمكن أن تعيد القدس أو شرقي القدس للفلسطينيين.[77]
ويسكن القدس بشقيها الغربي والشرقي حوالي 650 ألفاً حسب تقديرات سنة 2000 من بينهم 450 ألف يهودي، و 200 ألف عربي (كل العرب تقريباً يسكنون شرقي القدس). وبسبب سياسات المصادرة والقهر استولى الصهاينة على 86 % من مساحة القدس، وبقي للعرب الفلسطينيين فعلياً 4 %، بينما هناك 10 % مُنع العرب من الانتفاع بها ومعدَّة لمشاريع يهودية، مما يشير إلى مدى الخطورة التي وصل إليها مشروع تهويد مدينة القدس. مع العلم أن الفلسطينيين كانوا يملكون 90 % من القدس عند بدء الاحتلال البريطاني 1918.[78]
أما الحرم القدسي "المسجد الأقصى" فهي قصة مأساة أكثر إيلاماً. ولقد بدا التحريض اليهودي واضحاً بهذا الاتجاه منذ العشرينيات من القرن العشرين، وركز اليهود مطالبهم في البداية على الحائط الغربي للمسجد الأقصى الشريف "حائط البراق" والذي يسمونه حائط المبكى. والحائط والمنطقة التي حوله هي في الحقيقة أرض وقف إسلامي مثبتة بالشهادات والوثائق، وهو ما اعترفت به حتى لجان التحقيق الدولية. فبعد أيام من احتلال اليهود القدس الشرقية، قاموا بتدمير حي المغاربة المقابل للحائط الغربي للمسجد الأقصى (حائط البراق أو ما يسميه اليهود حائط المبكى)، وهو حي مكون من 135 بيتاً ومسجدين، وجرى تسويته بالأرض ليكون ساحة يستخدمها اليهود لأغراض عبادتهم، رغم أن الحي أرض وقف إسلامي.

 وبدأ اليهود حملة محمومة من الحفريات تحت المسجد الأقصى والمنطقة التي حوله، مركّزين على المنطقة الغربية والجنوبية للمسجد، محاولين إيجاد أي دليل حول هيكلهم، لكن كان معظم ما وجدوه آثاراً إسلامية تعزز مكانة القدس وهويتها الإسلامية. ومنذ 1967 وحتى سنة 2000 مرت عمليات الحفريات بعشر مراحل، كانت تتم بنشاط ولكن بهدوء وتكتم، و ركزت على المنطقتين الغربية والجنوبية للمسجد الأقصى وصادرت خلالها الكثير من المساجد والمباني التاريخية الإسلامية وهدمتها، فقامت مثلاً في 14 ـ 20 يونيو 1969 بهدم 31 مبنى إسلامياً تاريخياً وشردت سكانها. وتم حفر عدد من الأنفاق تحت المسجد الأقصى. وكان جل ما وجدوا آثاراً إسلامية تعزز مكانة القدس الإسلامية وهويتها، مما زادهم غيظاً وحقداً. وبلغت الحفريات مراحل خطيرة عندما أخذوا يفرغون الأتربة والصخور من تحت المسجد الأقصى وقبة الصخرة، مستخدمين المواد الكيماوية لتذويب الصخور، مما يجعل الأقصى تحت خطر الانهيار في أي لحظة، بسبب أية عاصفة قوية أو زلزال خفيف.

أما الاعتداءات على المسجد الأقصى فقد جرى 40 اعتداءً خلال 1967 ـ 1990، ولم تنفع التسوية السلمية واتفاقات أوسلو في وقف الاعتداءات، فتم تسجيل 72 اعتداءً خلال الفترة 1993 ـ 1998، مما يشير إلى ازدياد الحملة الشرسة ضد أحد أقدس مقدسات المسلمين. وكان من أبرز الاعتداءات عملية إحراق المسجد الأقصى في 21 أغسطس 1969 التي اتهم فيها نصراني متعصب يدعى دينيس مايكل روهان وينتمي إلى كنيسة الله. وقد أتت النيران على أثاث المسجد وجدرانه، كما أحرقت منبره العظيم الذي بناه نور الدين زنكي، ووضعه صلاح الدين الأيوبي فيه بعد تحرير الأقصى من الصليبيين سنة 1187م.وقد أخلى اليهود سبيل روهان بعد محاكمة صورية حكمت بأنه لا يتحمل مسئولية جنائية لأنه "مجنون". وقد تلكأت سلطات الاحتلال في المساعدة على إطفاء الحريق، بل وعرقلت جهود المسلمين الذين اندفعوا بالآلاف لإطفائه.

 وقد أنشئت منظمة المؤتمر الإسلامي بعد شهر من هذا الحريق عندما تنادى زعماء دول العالم الإسلامي لمناقشة سبل حماية المسجد الأقصى والقدس الشريف، غير أن ضعف الدول الإسلامية، وتضارب ولاءاتها وأيديولوجياتها، وعدم تبني خطوات عملية جادة من قبلها، جعل من هذه المنظمة مؤسسة تكاد تكون عديمة الجدوى، ولا تتجاوز أعمالها عقد الاجتماعات وإصدار البيانات وتفريغ المشاعر.

وفي 30 يناير 1976 أقرت إحدى المحاكم الإسرائيلية حق اليهود في الصلاة في ساحات المسجد الأقصى في أي وقت يشاءون من النهار. وفي الأول من مايو 1980 اكتشفت محاولة لتدمير الأقصى عندما وجد بالقرب منه أكثر من ألف كيلو من مادة (تي.إن.تي). وفي إبريل 1982 اقتحم جندي يهودي اسمه آلان جودمان المسجد الأقصى، وأطلق النار على حارس البوابة، ثم هرع إلى مسجد قبة الصخرة وهو يطلق النار بغزارة وبشكل عشوائي، فأصاب عدداً من المصلين، وشاركه جنود متمركزون على أسطح المنازل المجاورة في إطلاق النار تجاه قبة الصخرة، فتدافع المسلمون نحو المسجد لحمايته وأصيب حوالي مائة مسلم في هذه المواجهات. وفي الوقت نفسه استخدمت الولايات المتحدة حق النقض الفيتو لإسقاط مشروع إدانة مجلس الأمن الدولي لهذا الحادث في 20 إبريل1982. وتكررت محاولات نسف المسجد الأقصى في يناير وأغسطس وديسمبر 1984، وفي 17 أكتوبر 1989 قامت جماعة أمناء الهيكل اليهودية بوضع حجر الأساس لبناء الهيكل الثالث قرب مدخل المسجد الأقصى.[79]
ويقوم المسلمون في القدس وفلسطين بالسهر على حماية الأقصى رغم ما يعانونه من احتلال وقهر، وهم يهبّون دوماً للدفاع عن حرمته بأجسادهم وحجارتهم، بعد أن فقدوا النصير العربي والإسلامي. فلم تخل أي محاولة اعتداء يهودية من قيام المسلمين بالتصدي لها حتى لو أدى ذلك إلى ارتكاب مجازر بحقهم، كما حدث في 8 أكتوبر 1990 عندما استشهد 34 وجرح 115 آخرون، عندما حاولت جماعة يهودية وضع حجر أساس الهيكل داخل المسجد الأقصى. وكما حدث في 25 ـ 27 سبتمبر 1996 إثر انتفاضة الغضب التي قامت بسبب افتتاح اليهود لنفق تحت الجدار الغربي للمسجد الأقصى، مما أدى لاستشهاد 62 فلسطينياً، وجرح 1600 آخرين، وقد أدى تدخل الشرطة الفلسطينية إلى جانب الفلسطينيين إلى مقتل 14 جندياً صهيونياً وجرح خمسين آخرين.[80]


لقد صدرت عشرات القرارات الدولية عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي برفض ضم الكيان الإسرائيلي للقدس الشرقية، ورفض أية إجراءات مادية أو إدارية أو قانونية تغيّر من واقع القدس واعتبار ذلك لاغياً، واعتبرت هذه القرارات الكيان "الإسرائيلي" قوة احتلال يجب أن تخرج من القدس (ومن الضفة الغربية وقطاع غزة ككل). وقد صدر أول هذه القرارات في 4 يوليو 1967 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة تحت رقم 2253. وظلت القرارات تتوالى إلى أن ضم الكيان الإسرائيلي القدس رسمياً إليه، فاتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار 
ES 712 في 29 يوليو 1980 بغالبية 112 صوتاً مقابل 7 أصوات وامتناع 24، يدعو الصهاينة إلى الانسحاب الكامل ودون شروط من جميع الأراضي العربية المحتلة بما فيها القدس. واتخذ مجلس الأمن في 30 يوليو 1980 بغالبية 14 صوتاً ضد لا شيء وامتناع الولايات المتحدة عن التصويت قراراً بإعلان بطلان الإجراءات التي اتخذها الكيان الإسرائيلي لتغيير وضع القدس، مؤكداً ضرورة إنهاء الاحتلال "الإسرائيلي". واستمرت القرارات في الصدور إلى الآن، غير أنها وإن كانت تعترف بحقوق الفلسطينيين، إلا أنها تفتقر الجدية والآلية اللازمة لإرغام الكيان الإسرائيلي على احترام القرارات الدولية.[81]

مواضيع ذات صلة

ليست هناك تعليقات:

بسم الله الرحمن الرحيم .. قال تعالى : (( مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )) صدق الله العظيم