أرض فلسطين وشعبها
أرض فلسطين وشعبها
د. محسن محمد صالح
الأستاذ المشارك في الدراسات الفلسطينية
فلسطين:
يطلق اسم فلسطين على القسم الجنوبي الغربي من بلاد الشام، وهي الأرض الواقعة غربي آسيا على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وفلسطين ذات موقع استراتيجي مهم، إذ تعد صلة الوصل بين قارتي آسيا وإفريقيا، ونقطة التقاء جناحي العالم الإسلامي.
وأقدم اسم معروف لهذه البلاد هو "أرض كنعان"، لأن أول شعب تاريخي استقر فيها هم الكنعانيون، الذين جاءوا من جزيرة العرب أوائل الألف الثالث قبل الميلاد. واسم فلسطين اسمٌ مشتقٌ من اسم أقوام بحرية لعلها جاءت من غرب آسيا الصغرى ومناطق بحر إيجة حوالي القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وورد اسمها في النقوش المصرية "ب ل س ت PLST"، وربما أضيفت النون بعد ذلك للجمع، وقد سكنوا المناطق الساحلية، واندمجوا بالكنعانيين بسرعة، لكنهم أعطوا الأرض اسمهم.
ولم يتحدد شكل فلسطين وحدودها الجغرافية المتعارف عليها في عصرنا هذا إلا أيام الاحتلال البريطاني لفلسطين (1920 ـ 1923)، وقد كان تحديد أرض فلسطين يضيق ويتسع باختلاف العصور المتعاقبة عليها غير أنها ظلت جزءاً تاريخياً من بلاد الشام. ومن الصعب متابعة حدود فلسطين التاريخية، لأن طبيعة دراستنا هنا لا تميل إلى التفصيل الدقيق، غير أننا سنمر بأهم معالم التطور التاريخي لهذه الحدود. ففي العهد البيزنطي، ومنذ أواسط القرن الرابع للميلاد، قُسِّمت فلسطين إلى ثلاث وحدات إدارية، هي:
1 ـ فلسطين الأولى Palaestina I : وتشمل المنطقة من جنوب جبل الكرمل ومرج ابن عامر إلى خطٍّ يبدأ جنوبي رفح ويمتد شرقاً إلى وسط البحر الميت، وكان حدُّها الشرقي يضم أجزاء من شرق الأردن، فيمر خط حدودها من جنوبي بيسان ويقطع نهر الأردن بحيث يحيط بالمنطقة بين عجلون شمالاً وطرف البحر الميت الشمالي الشرقي، وكان مركز فلسطين الأولى مدينة قيسارية، ومن مدنها القدس ونابلس ويافا وغزة وعسقلان.
2 ـ فلسطين الثانية Palaestina II: وكانت تشمل جبال الجليل ومرج ابن عامر والمرتفعات الواقعة إلى الشرق من بحيرة طبرية، أي أجزاء من شرق الأردن وسوريا الحالية.
3 ـ فلسطين الثالثة Palaestina III: وكانت تضم المنطقة الواقعة جنوب خط رفح- البحر الميت، إلى خليج العقبة، وكان مركزها مدينة البتراء الواقعة الآن في شرق الأردن[1].
وعندما دخلت فلسطين تحت الحكم الإسلامي في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عُدَّت جزءاً من بلاد الشام، حيث قسمت الدولة إلى سبعة أمصار، وكانت بلاد الشام أحد هذه الأمصار. وقد قُسِّمت الشام إدارياً إلى أجناد في عهد الراشدين، هي جُنْدُ حمص، وجند دمشق، وجند فلسطين، وجند الأردن، وفي العهد الأموي أضيف جند خامس هو جند قنسرين، وكان جند فلسطين يمتد من رفح على الحدود مع سيناء إلى اللجون، وهي مدينةٌ تقع على بعد 18 كم شمالي غرب مدينة جنين. وكانت اللدُّ عاصمة جند فلسطين إلى أن تولى سليمان بن عبد الملك ولاية هذا الجند في عهد أخيه الوليد بن عبد الملك (86 ـ96هـ)، فأمر سليمان ببناء مدينة الرملة التي أصبحت عاصمة هذا الجند. ثم ما لبث جُند فلسطين أن أصبح ولاية مستقلة في العصر العباسي، بعد عهد أبي العباس السفاح، وظل مركزها الرملة. وكانت مقسومة إلى اثنتي عشرة "كُورة" هي الرملة، وإيلياء (القدس)، وعمواس، واللد، ويبنة، ويافا، وقيسارية، ونابلس، وسبسطية، وعسقلان، وغزة، وبيت جبرين، ويضم إليها نواحي زغر، وديار قوم لوط، والشراة والجبال حتى أيلة على خليج العقبة.
أمَّا جُند الأردن فقد كان يضم وفق الاعتبارات المعاصرة أجزاء من شرق الأردن وشمال فلسطين وجنوب لبنان، وكان هو أصغر أجناد الشام، وكان مركزه (عاصمته) طبرية، ويضم ثلاث عشرة "كُورة"هي طبرية، والسامرة، وبيسان، وفحل، وجرش، وبيت راس، وجدر، وآبل، وسوسية، وصفورية، وعكا، وقَدَس (شمال صفد)، وصور.
وفي عهد المماليك (1250 ـ 1517)، قُسِّمت بلاد الشام إدارياً إلى "نيابات"، وارتبطت أرض فلسطين بثلاث نيابات هي نيابة صفد، ونيابة القدس، ونيابة غزة، وكانت نيابة صفد تضم أجزاء من شمال فلسطين وجنوب لبنان حتى نهر الليطاني. وفي العهد العثماني في بلاد الشام (1516 ـ 1918)، قسمت بلاد الشام إلى ثلاث إيالات "ولايات"، هي إيالة دمشق، وإيالة حلب، وإيالة طرابلس، وألحقت بكل إيالة وحدات إدارية تسمى "سناجق" وكانت سناجق نابلس وغزة والقدس واللجون وصفد تتبع إيالة دمشق، وكان سنجق نابلس يضم أجزاء من شرق الأردن. وعندما استُحدثت إيالة صيدا سنة 1660 ضُمَّت مناطق صفد إليها، وانتقل مركز هذه الإيالة إلى عكا عام 1777، وتَبِعت ألوية القدس ونابلس والبلقاء فيما بعد إيالة صيدا. وعندما صدر نظام الولايات الجديد سنة 1864 ضُمَّت إيالة صيدا إلى ولاية سوريا.
وعندما أُنشئت ولاية بيروت سنة 1887 فُصل لواء عكا والبلقاء وثلاثة ألوية أخرى عن ولاية سوريا لتُكوِّن الولايات الجديدة. وكانت ولاية بيروت تمتد إلى منتصف الطريق بين نابلس والقدس، ضامَّةً بذلك لواء البلقاء الذي كان مركزه نابلس، وكان يضم أقضية جنين، وبني صعب وجماعين والسلط، في حين ضم لواء عكا أقضية حيفا والناصرة وطبريا وصفد، وقد ظلت هذه الأجزاء من شمال فلسطين جزءاً من ولاية بيروت حتى عام 1914. أما لواء القدس، فنظراً لأهميته ومخاوف الدولة العثمانية من الأطماع اليهودية الصهيونية فيه، ومن تدخلات الدول الأجنبية في شؤونه، فقد قامت بفصله عن ولاية سوريا، وأعلنته متصرفيةً مستقلةً وربطته بالحكومة المركزية في العاصمة ربطاً مباشراً منذ عام 1874، وضمت هذه المتصرفية مناطق وسط فلسطين وجنوبها، وتبعتها أقضية القدس ويافا وغزة والخليل. وفي عام 1909 أنشئ قضاء بئر السبع وكان قبل ذلك جزءاً من قضاء غزة. ونظراً لقوة متصرفية القدس فقد حدث أكثر من مرة أن أُلحق بها لواء نابلس (البلقاء) كما حدث أن ألحق بها قضاء الناصرة خلال الفترة 1906 ـ 1909. وقد استمرت متصرفية القدس حتى نهاية الدولة العثمانية[2].
لقد أردنا من هذا الاستطراد في الحديث عن الحدود الجغرافية لفلسطين التأكيد على عدد من المعاني أهمها:
- إنَّ تسمية فلسطين تسميةٌ قديمةٌ وهي غالباً ما تغطي المنطقة بين البحر المتوسط والبحر الميت ونهر الأردن.
- إنَّ فلسطين جزء من بلاد الشام، ولم تكن التقسيمات الإدارية أو التسميات أو توسيع بعض المناطق وتضييقها ليؤثر على شعور أبنائها الأصيل بأنهم أبناء أمُةٍ مسلمةٍ واحدة، وأن ولاءهم للحكم لا يهتز ما دام مسلماً.
- ولم تكن التقسيمات الإدارية سوى تقسيمات فنية، لتسهيل متابعة الدولة المسلمة لشؤون الأقاليم، ولم يكن تغييرها ليثير أية حساسيات حقيقية لدى عامة الناس. وكانت هذه التغييرات تحدث كما يحدث الآن في أي بلد من توسيعٍ أو تضييقٍ أو إعادة تسميةٍ للمحافظات والأقضية، دون أن يمس ذلك جوهر حياة الناس. وعلى ذلك، فقد كان طبيعياً أن يكون شمال فلسطين جزءاً من جند الأردن وأجزاءً من شرق الأردن جزءاً من جند فلسطين، ثم يحدث أن تتبع أجزاء من شمال فلسطين ولاية بيروت، وأن يكون مركز لواء البلقاء هو مدينة نابلس، .. إلخ.
- إن المشاعر الإقليمية الضيقة لم تكن لتوجد بين أبناء بلاد الشام (والمسلمين بشكل عام)، فكانت حرية التنقل والحركة والإقامة والعمل والتملك أموراً عادية يمارسها الجميع دون قيد أو حرج.
- إن التحديدات والجنسيات الإقليمية كانت بعيدة تماماً عن حس المسلم طوال العهد الإسلامي حتى نهاية الدولة العثمانية، ولم تنبت بذورها إلا في عهد الاستعمار الغربي، ولكنها لم تتجذر للأسف إلا بظهور الدول الإقليمية العربية والإسلامية المستقلة.
وكان من عادة العرب أن يطلقوا على أرض فلسطين اسم "سوريا الجنوبية" وذلك باعتبارها جزءاً من سوريا (بلاد الشام). وفي أثناء عهد الحكومة العربية في دمشق، (منذ أوائل أكتوبر 1918 حتى يوليو 1920) كانت فلسطين ـ على الرغم من الاحتلال البريطاني ـ ممثلة في المؤتمر السوري العام، وأول جريدة عربية ظهرت بعد الاحتلال البريطاني حملت اسم "سوريا الجنوبية". وكان الكثير من رجالات فلسطين في دمشق، ومنهم نواب في المؤتمر السوري الذي أعلن استقلال سوريا في 8 مارس 1920. ولم يغب هذا الاسم عن فلسطين إلا بعد معركة ميسلون، والاحتلال الفرنسي لسوريا، وسقوط الحكم العربي فيها (يوليو 1920)[3].
وتحت الاحتلال البريطاني تعينت الحدود بين فلسطين من جهة، وبين لبنان وسورية من جهة أخرى بموجب الاتفاق الفرنسي ـ البريطاني، المنعقد في 23 ديسمبر 1920، وقد حدث عليها بعض التعديل عام 1922 ـ 1923. أما حدود فلسطين مع شرق الأردن فقد حددها المندوب السامي لفلسطين وشرق الأردن في الأول من سبتمبر 1922. وبهذا التحديد بلغت مساحة فلسطين 27009 كيلومترات مربعة، وامتدت بين خطي عرض 30َ 29ْ و 15َ 33ْ شمالاً، وبين خطي طول 15َ 34ْ و 40َ 35ْ شرقي غرينتش[4]. وبلغت حدود فلسطين مع شرق الأردن 360 كم، ومع سوريا 70 كم، ومع لبنان 79 كم، ومع مصر 210 كم. أما الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط فيبلغ طوله 224 كم.
يمكن أن تقسم فلسطين إلى ثلاثة قطاعات طولية رئيسية هي السهل الساحلي، والمرتفعات الجبلية الوسطى التي تشغل معظم مساحة فلسطين، والأخدود الأردني. ويضيق السهل الساحلي بمحاذاة جبل الكرمل عند حيفا إلى 200 متر، ويتسع جنوباً ليزيد عرضه عن ثلاثين كيلومتراً في منطقة غزة، وهو منطقة تركز سكاني واقتصادي كبير. وفي الوقت الحالي يتركز حوالي ثلاثة أرباع سكان فلسطين فيه، وفضلاً عن النشاط الاقتصادي للموانئ وخصوصاً حيفا، فإنه يعد من المناطق الزراعية المهمة وخصوصاً للحمضيات. أما مرتفعات وسط فلسطين فهي تشمل جبال نابلس وجبال الخليل وهضبة النقب، ويبلغ ارتفاع جبالها إلى حوالي ألف متر، فيصل جبل حلحول إلى 1020 متراً ، وجبل جرزيم وعيبال إلى 940 متراً . وفي سلسلة جبال الجليل شمال فلسطين، تقع أعلى قمم جبال فلسطين، حيث يرتفع جبل الجرمق إلى 1208 أمتار.
وقد نشأت في هذه المرتفعات عددٌ من حواضر فلسطين المهمة مثل القدس ونابلس والخليل وبيت لحم ورام الله. ورغم وعورة السطح إلا أن هذه المناطق ظلت منذ آلاف السنين مراكز للعمران القروي، حيث تغطي الكثيرَ من السفوح تربةٌ صالحة للزراعة، استخدمها الفلاح الفلسطيني لإنتاج الحبوب و الخضراوات وزراعة أشجار الزيتون والكروم واللوزيات فضلاً عن الرعي وتربية الماشية. أما هضبة النقب التي تصل مساحتها إلى عشرة آلاف كم2 فهي صحراوية قليلة الإمكانات باستثناء مشارفها الشمالية، أما أجزاؤها الأخرى فلا يصيبها سوى 50 مم أو أقل من المطر، وهي أقل مناطق فلسطين كثافة سكانية.
ويمتد الأخدود الأردني مسافة 460كم من قواعد جبل الشيخ شمالاً إلى خليج العقبة جنوباً، وعلى طول الحدود الأردنية الفلسطينية، ويجري نهر الأردن في جزئه الشمالي، ليدخل في بحيرة طبرية ثم يخرج منها ليصب في البحر الميت على منسوب يقل عن 395 متراً تحت سطح البحر. أما البحر الميت فينتشر على مساحة 940 كم2، ومياهه أشد ملوحة من أي بحر أو بحيرة أخرى على وجه الأرض، ولا توجد فيه حياة بحرية. ومنطقة غور الأردن والبحر الميت هي أكثر المناطق انخفاضاً عن سطح البحر من أي مكان آخر على وجه الأرض، وتتميز هذه المناطق بحرارتها طوال العام، ويزرع سكانها النخيل والموز والخضراوات. وفي هذه المنطقة من الجانب الفلسطيني تقع أقدم مدينة في التاريخ وهي مدينة أريحا، التي نشأت حوالي سنة 8000 قبل الميلاد. وإلى الجنوب من البحر الميت يستمر هذا الأخدود أكثر من 150 كم، وهو ما يطلق عليه وادي عربة، غير أنه كلما اتجه جنوباً زاد ارتفاعاً، ثم يبدأ بالانخفاض من جديد إلى أن يصل إلى مستوى سطح البحر على شاطئ خليج العقبة.
والمناخ في فلسطين هو مناخ البحر المتوسط بشكل عام، وهو حار جاف صيفاً دافئ ممطر شتاء، وتتراوح معدلات نزول الأمطار من 600 ـ 800مم سنوياً في مرتفعات الجليل ونابلس والخليل. وفي السهل الساحلي تتضاءل كمية الأمطار كلما اتجهنا جنوباً، حيث تبدأ منطقة الكرمل بحوالي 800 مم، حتى تصل في منطقة رفح إلى حوالي 150 مم سنوياً. أما في منطقة غور الأردن فيصل معدل الأمطار إلى 200 مم سنوياً، وفي النقب 50مم سنوياً.
تتمتع أرض فلسطين بمكانة خاصة في التصور الإسلامي، وهي المكانة التي جعلتها محط أنظار المسلمين ومهوى أفئدتهم، وسنشير هنا باختصار إلى أهم النقاط التي جعلتها تحظى بهذه المكانة:
- في أرض فلسطين المسجد الأقصى المبارك، وهو أول قبلة للمسلمين في صلاتهم، كما يُعدُّ ثالث المساجد مكانة ومنـزلة في الإسلام بعد المسجد الحرام والمسجد النبوي، ويُسنُّ شد الرحال إليه وزيارته، والصلاة فيه بخمسمائة صلاة عما سواه من المساجد. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى"[6]، وقال صلى الله عليه وسلم:" الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة"[7]. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أخواله من الأنصار، وأنه صلى قبل بيت المقدس"[8].
وروى الطبري في تاريخه عن قتادة قال:" كانوا يُصلُّون نحو بيت المقدس ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة، وبعدما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً، ثم وجَّه بعد ذلك نحو الكعبة البيت الحرام"[9].
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض، قال: المسجد الحرام، قلت ثم أي، قال: المسجد الأقصى"[10]. وعن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: يا رسول الله، أفتنا في بيت المقدس، فقال:" ائتوه فصلوا فيه، فإن لم تأتوه وتصلوا فيه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله"[11].
وعن أم المؤمنين أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" من أهلَّ بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"، أو "وجبت له الجنة"، ثم قال: يرحم الله وكيعاً أحرم من بيت المقدس (يعني إلى مكة)[12]. ورواه البيهقي وابن حبان في صحيحه ولفظه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" من أهلَّ من المسجد الأقصى بعمرةٍ غفر له ما تقدم من ذنبه"، قال: فركِبَت أم حكيم إلى بيت المقدس حتى أهلت منه بعمرة.
- وأرض فلسطين أرض مباركة بنص القرآن الكريم: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾[13]، وقال تعالى: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾[14]، قال ابن كثير: بلاد الشام[15]، وقوله تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾[16]، قال ابن كثير: بلاد الشام[17]، وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً﴾[18]، قال ابن عباس: القرى التي باركنا فيها هي بيت المقدس[19]. والبركة هنا حسية ومعنوية لما فيها من ثمار وخيرات، ولما خصت به من مكانة، ولكونها مقر الأنبياء ومهبط الملائكة الأطهار.
- وهي أرض مقدسة بنص القرآن الكريم، قال الله تعالى على لسان موسى عليه السلام: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ﴾[20]، قال الزجاج: المقدسة : الطاهرة، وقيل سماها المقدسة لأنها طهرت من الشرك وجعلت مسكناً للأنبياء والمؤمنين، قال الكلبي: الأرض المقدسة هي دمشق وفلسطين وبعض الأردن، وقال قتادة: هي الشام كلها[21].
- وفلسطين أرض الأنبياء ومبعثهم عليهم السلام، فعلى أرضها عاش إبراهيم وإسماعيل، وإسحاق ويعقوب ويوسف ولوط، وداود وسليمان وصالح وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام ممن ورد ذكرهم في القرآن الكريم، كما زارها محمد صلى الله عليه وسلم. كما عاش على أرضها الكثير من أنبياء بني إسرائيل الذي كانت تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي جاءهم نبي، وممن ورد ذكرهم في الحديث الصحيح نبي الله يوشع عليه السلام[22]. ولذلك فإن المسلمين عندما يقرؤون القرآن الكريم يشعرون بارتباط عظيم بينهم وبين هذه الأرض لأن ميدان الصراع بين الحق والباطل تركَّز على هذه الأرض، ولأنهم يؤمنون بأنهم حاملو ميراث الأنبياء ورافعو رايتهم.
- وتكثر في فلسطين أضرحة ومقامات ومزارات الأنبياء، وهي تُخلِّد ذكرى استقرارهم أو مرورهم في هذه الأماكن، فأبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام سميت باسمه إحدى أهم مدن فلسطين، وهي مدينة الخليل، ويقع ضريحه في هذه المدينة داخل الحرم الإبراهيمي. وللنبي صالح سبعة أماكن على الأقل تخلد ذكرى نزوله في فلسطين أحدها في الرملة، وله فيها موسم زيارة سنوي مشهور، في شهر إبريل من كل عام. وهناك قرية من قرى قضاء طولكرم اسمها "ارتاح" تناقل الناس جيلاً بعد جيل أن يعقوب عليه السلام قد ارتاح فيها. وفي فلسطين أكثر من مقام للنبي شعيب عليه السلام. وهناك مقام مشهور للنبي موسى عليه السلام قرب أريحا، كما أن في القدس ضريح داود عليه السلام. أما المسيح عيسى عليه السلام فهناك العديد من الأماكن التي تخلد ذكراه في القدس وبيت لحم والناصرة وغيرها[23].
- وفلسطين أرض الإسراء، فقد اختار الله سبحانه المسجد الأقصى ليكون مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومنه كان معراجه إلى السماء، فشرَّف الله بذلك هذا المسجد وأرض فلسطين تشريفاً عظيماً، وجُعلت بيت المقدس بذلك بوابة الأرض إلى السماء. وهناك في المسجد الأقصى جمع الله سبحانه لرسوله الأنبياء من قبله فأمَّهم في الصلاة، دلالة على استمرار رسالة التوحيد التي جاء بها الأنبياء، وعلى انتقال الإمامة والريادة وأعباء الرسالة إلى الأمة الإسلامية.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أُتيت بالبراق فركبته، حتى أَتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين، ثم عُرج بنا إلى السماء"[24].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لقد رأيتني في الحِجْر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثلها قط، فرفعه الله لي [أي بيت المقدس] أنظر إليه ما يسألونني عن شيء إلا أنبأتهم به. وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء [يعني في بيت المقدس] فإذا موسى قائم يُصلِّي، فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة. وإذا عيسى بن مريم عليه السلام قائم يصلي أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم يعني نفسه صلى الله عليه وسلم، فحانت الصلاة فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة قال قائل: يا محمد هذا مالكٌ صاحب النار، فسَلِّم عليه، فالتفتُّ إليه، فبدأني بالسلام"[25].
- وتبسط الملائكة أجنحتها على أرض فلسطين، التي هي جزء من بلاد الشام، ففي الحديث الصحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يا طوبى للشام، يا طوبى للشام، قالوا: يا رسول الله وبم ذلك؟ قال: تلك ملائكة الله باسطة أجنحتها على الشام"[26].
- وهي أرض المحشر والمنشر، فقد روى الإمام أحمد بسنده عن ميمونة بنت سعد مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله أفتنا في بيت المقدس، فقال:"أرض المحشر والمنشر"[27].
- وهي عقر دار الإسلام، وقت اشتداد المحن والفتن، فعن سلمة بن نفيل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عقر دار الإسلام بالشام"[28]، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي، فنظرت فإذا نور ساطع عمد به إلى الشام، ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام"[29].
- والمقيم المحتسب فيها كالمجاهد والمرابط في سبيل الله، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أهل الشام وأزواجهم وذرياتهم وعبيدهم وإماؤهم إلى منتهى الجزيرة مرابطون في سبيل الله، فمن احتل مدينة من المدائن فهو في رباط، ومن احتل منها ثغراً فهو في جهاد"[30].
-وفي أحاديث يفسر ويقوي بعضها بعضاً أن الطائفة المنصورة الثابتة على الحق تسكن الشام وخصوصاً بيت المقدس وأكنافها، فعن أبي أمامة مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لعدوهم قاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قيل: يا رسول الله أين هم؟، قال: بيت المقدس وأكناف بيت المقدس"[31].
أقام اليهود حججهم في اغتصاب أرض فلسطين وإنشاء الكيان اليهودي الصهيوني عليها، على ادعاءات دينية وتاريخية، ونحاول هنا أن نناقش الأمر من هاتين الزاويتين:
الغريب في أمر الادعاءات الدينية أن اليهود يريدون من الآخرين أن يقتنعوا ويؤمنوا بما يؤمنون به، ولو كان المسلمون يؤمنون بحق اليهود في فلسطين لما حدثت صراعات وحروب. إن نقطة الالتقاء في القناعات الدينية توجب أن يؤمن أحد الطرفين بما عند الآخر، وهو ما يجعل الأمر يبدو مستحيلاً من الناحية المنطقية، إذ لا يوجد معايير دقيقة يقبلها الطرفان، ويمكن الاحتكام إليها.
يبني اليهود ادعاءاتهم الدينية على ما ينقلونه من التوراة المحرفة من إعطاء الله سبحانه هذه الأرض لإبراهيم ونسله. ومما جاء فيها "وقال الرب لإبراهيم: اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك… فذهب إبراهيم كما قال الرب... فأتوا إلى أرض كنعان... وظهر الرب لإبراهيم وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض"[32]، وجاء في التوراة المحرفة أيضاً "وسكن (إبراهيم) في أرض كنعان فقال له الرب: ارفع عينيك وانظر من الموضع الذي أنت فيه شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، لأن جميع الأرض التي أنت ترى لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد"[33]، وجاء فيها أيضاً:"قطع الرب مع إبراهيم ميثاقاً قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات"[34].
كما يحتجون بتراث أنبياء بني إسرائيل في الأرض المقدسة، وسعيهم لإسكان أتباعهم فيها، ومد نفوذهم عليها كما فعل موسى ويوشع وداود وسليمان عليهم السلام، غير أن الرؤية الإسلامية تنظر للأمر من زاوية مختلفة، ويمكن إجمال رد المسلمين على اليهود في النقاط التالية:
أولاً: يؤمن المسلمون بكل الأنبياء، والإيمان بالأنبياء من أركان الإيمان، والكفر بأي منهم ممن ثبتت رسالتهم (بما فيهم أنبياء بني إسرائيل) كفرٌ يخرج عن الإسلام. غير أن المسلمين يؤمنون أن اليهود حرَّفوا التوراة، وكذَّبوا أنبياءهم وقتلوا عدداً منهم، ولم يتبعوا هداهم. ويؤمن المسلمون أنهم الأتباع الحقيقيون لهؤلاء الأنبياء، وأنهم ورثة رسالتهم، في هذا الزمان وليس اليهود.
وإذا كانت رابطة العقيدة والإيمان هي الأساس الذي يجتمع عليه المسلمون مهما اختلفت أجناسهم وألوانهم، فإن المسلمين هم أحق الناس بميراث الأنبياء بما فيهم أنبياء بني إسرائيل؛ لأن المسلمين هم الذين لا يزالون يرفعون الراية التي رفعها الأنبياء، وهم السائرون على دربهم وطريقهم. وهؤلاء الأنبياء هم مسلمون موحدون حسب الفهم القرآني. وانظر قوله تعالى : ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾[35]، وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ. وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ. أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾[36].
وبشكل عام، فأمة التوحيد واحدة من لدن آدم عليه السلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأنبياء الله ورسله وأتباعهم هم جزء من أمة التوحيد، ودعوة الإسلام هي امتداد لدعوتهم، والمسلمون هم أحق الناس بأنبياء الله ورسله وميراثهم.
فرصيد الأنبياء هو رصيدنا وتجربتهم هي تجربتنا، وتاريخهم هو تاريخنا، والشرعية التي أعطاها الله للأنبياء وأتباعهم في حكم الأرض المباركة المقدسة هي دلالة على شرعيتنا وحقنا في هذه الأرض وحكمها.
ثانياً:يؤمن المسلمون أن الله سبحانه وتعالى أعطى هذه الأرض لبني إسرائيل لفترة محدودة، عندما كانوا مستقيمين على أمر الله، وعندما كانوا يمثلون أمة التوحيد في الأزمان الغابرة، ولسنا نخجل أو نتردد في ذكر هذه الحقيقة وإلا خالفنا صريح القرآن، ومن ذلك قول موسى عليه السلام لقومه: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾[37]، غير أن هذه الشرعية ارتبطت بمدى التزامهم بالتوحيد والالتزام بمنهج الله، فلما كفروا بالله وعصوا رسله وقتلوا الأنبياء ونقضوا عهودهم وميثاقهم، ورفضوا اتباع الرسالة الإسلامية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم والذي بشر به أنبياء بني إسرائيل قومهم ﴿الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ ﴾[38]، ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [39]، فلما فعلوا ذلك حلت عليهم لعنة الله وغضبه ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾[40]، وقال تعالى ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ﴾[41].
وبذلك تحولت شرعية حكم الأرض المقدسة إلى الأمة التي سارت على منهج الأنبياء وحملت رايتهم، وهي أمة الإسلام. فالمسألة في فهمنا ليست متعلقة بالجنس والنسل والقوم، وإنما باتباع المنهج.
لقد شوه اليهود جمال التوحيد، وافتروا على الله الكذب، وزوروا تاريخ أنبيائهم. وعلى سبيل المثال تذكر التوراة المحرفة والتلمود أن الله (تعالى عما يقولون علواً كبيراً) يلعب مع الحوت والأسماك كل يوم ثلاث ساعات، وأنه بكى على هدم الهيكل حتى صغر حجمه من سبع سماوات إلى أربع سماوات، وأن الزلازل والأعاصير تحدث نتيجة نزول دمع الله على البحر ندماً على خراب الهيكل[42]، هذا فضلاً عما ذكره القرآن من ادعاءاتهم ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ﴾[43]، ﴿لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء﴾[44]، ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ﴾[45].
كما ينسب اليهود إلى سيدنا يعقوب عليه السلام سرقة صنم ذهبي من أبيه، وأنه صارع الله (!!) قرب نابلس، وسمي بذلك بإسرائيل، كما تنسب له رشوة أخيه وخدعة أبيه، وأنه سكت عن زنا ابنتيه وأنه أشرك بربه...!! وقس على ذلك ما ذكروا عن باقي الأنبياء عليهم السلام[46].
إن اليهود أنفسهم يعترفون بالمنكرات التي فعلوها بحق الله وحق أنبيائه، فيذكرون أن ملكهم يوحاز بن يوتام 735 ـ 715 ق.م علق قلبه بحب الأوثان حتى إنه ضحى بأولاده على مذابح الآلهة الوثنية وأطلق لنفسه عنان الشهوات والشرور، وأضلَّ منسي بن حزقيا الذي حكم خلال الفترة 687 ـ 642 ق. م قومه عن عبادة الله وأقام معابد وثنية[47]. ولسنا نستغرب هذا عن بني إسرائيل فتلك أخلاقهم مع موسى عليه السلام تشهد بذلك، كما أن القرآن الكريم يشير إلى أنهم غيّروا وبدَّلوا وقتلوا الأنبياء ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾[48]، ويحدثنا التاريخ أنهم قتلوا النبي حزقيال حيث قتله قاضٍ من قضاتهم لأنه نهاه عن منكرات فعلها، وأن الملك منسي بن [حزقيا] قتل النبي أشعيا بن أموص إذ أمر بنشره على جذع شجرة لأنه نصحه ووعظه، وأن اليهود قتلوا النبي أرميا رجماً بالحجارة لأنه وبخهم على منكرات فعلوها[49].
ويسجل التلمود أن سقوط دولة اليهود وتدميرها لم يكن إلا "عندما بلغت ذنوب بني إسرائيل مبلغها وفاقت حدود ما يطيقه الإله العظيم، وعندما رفضوا أن ينصتوا لكلمات وتحذيرات إرمياه". وبعد تدمير الهيكل وجه النبي إرمياه كلامه إلى نبوخذ نصر والكلدانيين قائلا:" لا تظن أنك بقوتك وحدها استطعت أن تتغلب على شعب الله المختار، إنها ذنوبهم الفاجرة التي ساقتهم إلى هذا العذاب"[50].
وتشير التوراة إلى آثام بني إسرائيل التي استحقوا بسببها سقوط مملكتهم، فتذكر على لسان أشعيا أحد أنبيائهم "ويل للأمة الخاطئة، الشعب الثقيل الآثم، نسل فاعلي الشر، أولاد مفسدون تركوا الرب، استهانوا بقدوس إسرائيل، ارتدوا إلى وراء"، سفر أشعيا الإصحاح الأول (4)، وتقول التوراة " والأرض تدنست تحت سكانها لأنهم تعدوا الشرائع، غيروا الفريضة، نكثوا العهد الأبدي" سفر أشعيا الإصحاح 24 (5).
وهكذا لم يعد اليهود مؤهلين لحمل أعباء الرسالة وتكاليفها، ففقدوا حقهم الديني في الأرض المقدسة.
ثالثاً: فضلاً عن فهمنا المسألة في أصلها الشرعي، فإذا كان الله قد أعطى إبراهيم عليه السلام ونسله هذه الأرض، فإن بني إسرائيل ليسوا وحدهم نسل إبراهيم، فالعرب العدنانيون هم من نسله أيضاً، وهم أبناء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وإليهم تنتمي قبيلة قريش، التي ينتسب إليها محمد صلى الله عليه وسلم. وبالتالي فللعرب حقهم في الأرض.
رابعاً: إن القرآن الكريم يوضح مسألة إمامة سيدنا إبراهيم وذريته في شكل لا لبس فيه، وتأمل قوله تعالى "وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ"[51].
فعندما سأل إبراهيم الله أن تكون الإمامة في ذريته بيّن الله له أن عهده لذريته بالإمامة لا يستحقه ولا يناله الظالمون، وأي ظلم وكفر وصد عن سبيل الله وإفساد في الأرض أكبر مما فعله بنو إسرائيل ويفعلونه!!.
يزعم اليهود أن فلسطين هي أرضهم التاريخية، وأن تاريخهم وتراثهم قد ارتبط بها، وأنهم هم الأصل في هذه الأرض وغيرهم ليسوا من أبنائها، وليسوا أكثر من عابري سبيل، وأن الأرض لا ترتبط عندهم بمعنى مميز كما ترتبط لدى اليهود.. ويشيرون إلى فترات حكم داود وسليمان عليهما السلام ودولتي إسرائيل ويهودا.. إلخ.
وابتداء، فإننا لا نعدُّ اليهود الحاليين امتداداً تاريخياً شرعياً لبني إسرائيل، وحكم الأنبياء و الصالحين لأرض فلسطين، وصراعهم مع أعدائهم هو جزء من تاريخ أمة التوحيد، التي تعد أمة الإسلام امتداداً تاريخياً طبيعياً لهم.
وعلى أي حال، وحتى لو قبلنا فرضاً، بمناقشة الأمر وفق الافتراضات اليهودية، فإنه يمكن إجمال ردنا عليهم فيما يلي:
أولاً: سكن الإنسان أرض فلسطين منذ العصور الموغلة في القدم، أي قبل حوالي مليون عام، وبنى أبناء فلسطين أقدم مدينة في العالم " أريحا" قبل نحو عشرة آلاف سنة أي 8000 قبل الميلاد، وهاجر الكنعانيون من جزيرة العرب إلى فلسطين حوالي 2500ق.م، وكانت هجرتهم واسعة بحيث أصبحوا السكان الأساسيين للبلاد، وعرفت البلاد باسمهم، وأنشأوا معظم مدن فلسطين وقراها والتي بلغت في الألف الثاني قبل الميلاد حوالي مائتي مدينة وقرية، ومنها مدن شكيم (نابلس وبلاطة)، وبيسان وعسقلان وعكا وحيفا والخليل وأسدود وعاقر وبئر السبع وبيت لحم وغيرها.
ويرى ثقاةُ المؤرخين أن عامة أهل فلسطين الحاليين وخاصة القرويين هم من أنسال الكنعانيين والشعوب القديمة، مثل شعوب البحر "الفلسطينيون"، أو من العرب والمسلمين الذين استقروا في البلاد إثر الفتح الإسلامي لها، وامتزجوا بأهلها الأصليين، أي أن جذور الفلسطينيين الحاليين تعود إلى 4500 سنة على الأقل، وهم لم يغادروها أو يهجروها طوال هذه الفترة إلى أي مكان آخر[52].
ثانياً: إن قدوم إبراهيم عليه السلام إلى فلسطين كان حوالي سنة 1900 ق.م، والتوراة تعترف أنها كانت أرضاً عامرة وتسميها باسمها "أرض كنعان"، حتى إن إبراهيم عليه السلام اشترى من أهلها مكاناً يدفن فيه زوجته سارة، وهو مغارة المكفيلة، والتي دفن فيها هو أيضاً فيما بعد، وكذلك ابنه إسحاق وحفيده يعقوب عليهما السلام، وهي التي بني عليها المسجد الإبراهيمي. واستقر بنو يعقوب فيما بعد (واسمه إسرائيل أيضاً)، في مصر بعد ذلك لأجيال عديدة حتى جاء موسى عليه السلام بتكليف إرسالهم إلى الأرض المقدسة حوالي 1250ق.م.
وحتى سنة 1000ق.م لم يتمكن بنو إسرائيل سوى من الاستيطان في أجزاء ضئيلة من فلسطين في الأراضي المرتفعة المحيطة بالقدس، وفي السهول الشمالية.
ثالثاً: إن ملك داود وسليمان عليهما السلام استمر حوالي ثمانين عاماً فقط (1004 ـ 923 ق.م)، وخلالها تمت السيطرة على معظم أنحاء فلسطين باستثناء المناطق الساحلية التي لم تلامسها المملكة إلا من مكان قريب من يافا.
وبعد وفاة سليمان عليه السلام انقسم اليهود إلى مملكتين:
1 ـ مملكة إسرائيل: في الجزء الشمالي من فلسطين، وعاصمتها في شكيم ثم ترزة ثم السامرة قرب نابلس، واستمرت حوالي مائتي عام (923- 721 ق.م)، وقد سمتها دائرة المعارف البريطانية ازدراء "المملكة الذيلية"، لضعفها وقلة شأنها. وقد قام الآشوريون بقيادة سرجون الثاني بالقضاء على هذه الدولة ونقلوا سكانها اليهود إلى حران والخابور وكردستان وفارس، وأحلوا محلهم جماعات من الآراميين، ويظهر أن المنفيين الإسرائيليين اندمجوا تماماً في الشعوب المجاورة لهم في المنفى، فلم يبق بعد ذلك أثر لنسل الأسباط العشرة من بني إسرائيل (يعقوب)، وهم الذين كانوا يتبعون هذه المملكة.
2 ـ مملكة يهودا: وعاصمتها القدس واستمرت 337 عاماً أي الفترة 923 ـ 586 ق.م، ولم تكن تملك سوى أجزاء محدودة من وسط فلسطين، وقد اعترتها عوامل الضعف ووقعت تحت النفوذ الخارجي فترات طويلة، ودخل المهاجمون القدس نفسها مرات عديدة، كما فعل فرعون مصر شيشق أواخر القرن العاشر ق. م، والفلسطينيون الذين استولوا على قصر الملك يهورام (849- 842 ق.م) وسبوا بنيه ونساءه، كما خضعت للنفوذ الآشوري في عهود سرجون الثاني، وأسرحدون وآشور بانيبال، ..إلخ، وأخيراً أسقط البابليون بقيادة نبوخذ نصر "بختنصر"هذه المملكة، وسبى 40 ألفاً من اليهود إلى بابل في العراق، وهاجر من بقي من اليهود إلى مصر.
وعلى هذا، فإن ملك بني إسرائيل استمر في أقصى مداه الزمني حوالي أربعة قرون لكنه كان على الأغلب على أجزاء محدودة من أرض فلسطين، وكانت مساحة نفوذهم على الأرض ونفوذهم السياسي تتآكل كلما مر الوقت.
رابعاً: عندما دخلت فلسطين تحت الحكم الفارسي 539 ـ 332 ق.م سمح الإمبراطور قورش الثاني لليهود بالعودة إلى فلسطين من سبيهم البابلي، فرجعت أقلية منهم بينما بقيت أغلبيتهم في الأرض الجديدة (العراق) بعد أن أعجبتهم فاستقروا فيها. وسُمح لليهود بنوع من الحكم الذاتي تحت الهيمنة الفارسية في منطقة القدس وبمساحة لا يتجاوز نصف قطرها 20 كيلو متراً في أي اتجاه، أي بما لا يزيد عن 4.8 % من مساحة فلسطين الحالية؟!.
وتحت الحكم الهلليني الإغريقي 332 - 63 ق.م استمر وضعهم على حاله تقريباً في عصر البطالمة (302 - 198 ق.م) غير أنهم عانوا من حكم السلوقيين (198 - 63 ق.م) الذين حاولوا فرض عبادة الآلهة اليونانية عليهم. وعندما ثار اليهود على الوضع، سمح لهم السلوقيون بممارسة دينهم، وتأسّس لهم حكم ذاتي في القدس منذ 164 ق.م أخذ يضيق ويتسع، وتزداد مظاهر استقلاله أو تضعف حسب صراع القوى الكبرى في ذلك الزمان على فلسطين. لكنهم ظلوا تحت نفوذ غيرهم ، ولم يتهيأ لهم الاستقلال السياسي الكامل رغم أنهم شهدوا انتعاشاً وتوسعاً تحت زعيمهم الكسندر جانيوس 103 ـ 76 ق.م. وقد غيَّر الرومان الذين بدأوا حكم فلسطين منذ 63 ق.م من سياستهم تجاه الحكم الذاتي اليهودي منذ السنة السادسة للميلاد، فبدأوا حكماً مباشراً على القدس وباقي فلسطين. وعندما ثار اليهود على الرومان 66 - 70 م أخمد الرومان الثورة بقسوة، ودمروا الهيكل والقدس. كما قضى الرومان على ثورة أخرى وأخيرة لليهود 132 - 135م فدمروا القدس وحرثوا موقعها، ومُنع اليهود من دخولها، والسكن فيها، وسُمح للمسيحيين فقط بالإقامة على ألّا يكونوا من أصل يهودي. وأقام الرومان مدينة جديدة فوق خرائب أورشليم (القدس) سموها إيليا كابيتولينا، ولذلك عرفت القدس فيما بعد باسم إيلياء، وهو الاسم الأول للإمبراطور الروماني في ذلك الوقت هادريان. واستمر حظر دخول اليهود للقدس مائتي سنة أخرى[53].
خامساً: منذ القرن الثاني للميلاد وحتى القرن العشرين، وطوال حوالي 1800 سنة لم يشكل اليهود أية مجموعة بشرية أو سياسية ذات شأن في تاريخ فلسطين، وانقطعت صلتهم بها، سوى ما حفظوه من عواطف روحية، لم يكن لها تأثير سوى زيارة بعضهم للقدس، بإذنٍ وتسامح من المسلمين.
ويدعي اليهود ارتباطهم المقدس بأرض فلسطين، وأنهم لم يخرجوا منها إلا قسراً، وأنهم لو سمح لهم لعادوا كلهم إليها، وهذا ينطوي على قدر هائل من المبالغة، إذ يذكر المؤرخون أن أغلب اليهود استنكفوا عن العودة إلى فلسطين بعد أن سمح لهم الإمبراطور الفارسي قورش بذلك. كما يجمع المؤرخون أن أعداد اليهود في فلسطين لم تزد عن ثلث يهود العالم قبل أن يحطم الرومان القدس على يد تيتوس في القرن الأول الميلادي. والآن، وبعد أكثر من خمسين عاماً على إنشاء الكيان اليهودي لا يزال أكثر من 60% من يهود العالم يعيشون خارج فلسطين، ويستنكفون عن الهجرة إليها، خصوصاً من تلك المناطق التي تتمتع بأوضاع اقتصادية أفضل كالولايات المتحدة وأوروبا الغربية[54].
سادساً: انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين شرقي وغربي منذ 395 م، فتكونت الإمبراطورية الرومانية الشرقية وعاصمتها القسطنطينية، والإمبراطورية الرومانية الغربية وعاصمتها روما، غير أن الإمبراطورية الشرقية، التي عرفها العرب بدولة الروم، والتي عرفت كذلك باسم الدولة البيزنطية، حافظت على الهيمنة على فلسطين باستثناء فترات ضئيلة حتى جاء الفتح الإسلامي.
سابعاً: فتح المسلمون فلسطين في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بعد هزيمة الروم في أجنادين واليرموك وغيرها، ودخلوا القدس في 15هـ/ 636م. ومنذ ذلك الزمان اكتسبت فلسطين طابعها الإسلامي، ودخل أهلها في دين الله أفواجاً، وتعرب سكانها وتعربت لغتها بامتزاج أبنائها في ظل الحضارة الإسلامية مع القبائل العربية القادمة من الجزيرة، وظلت محتفظة بشكل عام بطابعها الإسلامي إلى عصرنا هذا.
ثامناً: احتل الصليبيون القدس وأنشأوا مملكة بيت المقدس، واستمر حكمهم 88 عاماً 1099 ـ 1187 إلى أن استطاع صلاح الدين الأيوبي تحريرها إثر معركة حطين. وفيما عدا ذلك فإن فلسطين نعمت بالحكم تحت راية الإسلام 636 ـ 1917، أي حوالي 1200 عام. وهي أطول فترة تاريخية مقارنة بأي حكم آخر، كان الحكم فيه مسلماً والشعب مسلماً، وهو ما لم يحظ به أي عهد آخر مَرَّ على فلسطين. ثم إن المسلمين حكموا على مر تاريخهم فلسطين كلها وليس بعضاً منها. كما ضرب المسلمون المثل الأعلى في التسامح الديني، فوفروا حرية العبادة لليهود والنصارى، وأمنوهم على أموالهم وأرواحهم وأعراضهم، فكانوا خير من خدم الأرض المقدسة وحمى حرمتها ومنع سفك الدماء.
تاسعاً: إذا كانت المسألة متعلقة بالانتماء القومي والتركيب العرقي، فهل يستطيع يهود هذا الزمان إثبات أنهم أنسال بني إسرائيل الذي عاشوا في فلسطين قبل ألفي عام؟ إن الدراسات العلمية الأكاديمية لعدد من اليهود أنفسهم، وعلى رأسهم الكاتب المشهور آرثر كوستلر A. Koestler في كتابه القبيلة الثالثة عشر The Thirteenth Tribe: The Khazar Empire & its Heritage تشير إلى أن الأغلبية الساحقة ليهود هذا الزمان ليست من ذرية بني إسرائيل القدماء، وأن معظم اليهود الآن هم من نسل يهود الخزر، وهم في أصلهم قبائل تترية قديمة كانت تعيش في منطقة القوقاز، وأسست لنفسها مملكة في القرن السادس الميلادي شمال غربي بحر الخزر (بحر قزوين). وقد تهودت هذه المملكة في القرن الثامن الميلادي، ودخل ملكها بولان في اليهودية سنة 740 للميلاد، وقد سقطت هذه المملكة في نهاية القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر على يد تحالف الروس والبيزنطيين، وانتشر يهود الخزر بعد ذلك في روسيا وأوروبا الشرقية والغربية، واستقرت أعداد منهم في الأندلس أيام الحكم الإسلامي، وبعد سقوطها على يد الأسبان، هاجروا إلى شمال إفريقيا حيث شملهم تسامح المسلمين ورحمتهم[55].
عاشراً: إن الحكم اليهودي الصهيوني المعاصر على معظم أرض فلسطين منذ سنة 1948 لم يتم إلا بالغصب والقوة والبطش و الدمار، وبناء على طرد أهلها وحرمانهم من حقوقهم، وتحت حماية القوى الكبرى ورعايتها كبريطانيا وأمريكا، وهو يفتح باباً لسفك الدماء والحروب التي لا يعلم مداها إلا الله.
وهكذا فمن الناحية التاريخية لم يحكم اليهود إلا أجزاء من فلسطين وبما لا يزيد عن أربعة قرون (400 عام)، بينما حكمها المسلمون حوالي 1200 عام. ثم إن أهل فلسطين من الكنعانيين ومن امتزج بهم ظلوا أهلها منذ 4500 عام وحتى الآن، ولم يخرجوا منها على مر العصور، وهم الذين تنصروا أيام الرومان، وهم الذين أسلموا فيما بعد، فبقيت الأرض أرضهم، والبلاد بلادهم، أما اليهود فقد انقطعت صلتهم بفلسطين حوالي 1800 عام (135- 1948)، ولأصحاب العقل والمنطق أن يجيبوا الآن: من هو صاحب الحق التاريخي في أرض فلسطين؟
حادي عشر: ما هو التقويم التاريخي الحضاري للدور الذي قام به اليهود في فلسطين؟
نترك الإجابة لبعض مؤرخي النصارى المشهورين، فمثلاً يقول هـ.ج ولز في كتاب موجز التاريخ حول تجربة بني إسرائيل في فلسطين بعد السبي البابلي:" كانت حياة العبرانيين في فلسطين تشبه حياة رجل يصر على الإقامة وسط طريق مزدحم، فتدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار... ومن الأول إلى الآخر لم تكن مملكتهم سوى حادث طارئ في تاريخ مصر وسورية وآشور وفينيقية، ذلك التاريخ الذي هو أكبر وأعظم من تاريخهم"[56].
ويذكر المؤرخ المشهور غوستاف لوبون أن بني إسرائيل عندما استقروا في فلسطين "لم يقتبسوا من تلك الأمم سوى أخس ما في حضارتها، أي لم يقتبسوا غير عيوبها وعاداتها الضارة ودعارتها وخرافاتها فقربوا لجميع آلهة آسيا، قربوا لعشتروت ولبعل ولمولوخ من القرابين ما هو أكثر جداً مما قربوه لإله قبيلتهم يهوه العبوس الحقود الذي لم يثقوا به إلا قليلاً" ويقول :"اليهود عاشوا عيشة الفوضى الهائلة على الدوام تقريباً، ولم يكن تاريخهم غير قصة لضروب المنكرات.." "إن تاريخ اليهود في ضروب الحضارة صفر.. وهم لم يستحقوا أن يُعدُّوا من الأمم المتمدنة بأي وجه". ويقول غوستاف لوبون أيضاً:" وبقي بنو إسرائيل حتى في عهد ملوكهم بدواً أفاقين مفاجئين مغيرين سفاكين.. مندفعين في الخصام الوحشي"، ويقول:"إن مزاج اليهود النفسي ظل على الدوام قريباً جداً من حال أشد الشعوب بدائية. فقد كان اليهود عُنُداً مندفعين، غُفلاً سُذَّجاً جفاة كالوحوش والأطفال".."ولا تجد شعباً عطل عن الذوق الفني كما عطل اليهود"[57].
كان الوجود اليهودي في فلسطين مما لا يؤبه له طوال العصور الإسلامية، ولم يزد عدد اليهود في بداية القرن التاسع عشر عن خمسة آلاف[58] لا يكادون يملكون شيئاً من أرضها. ومع نشوء المسألة اليهودية في أوروبا، وتجدد اضطهاد اليهود خصوصاً في روسيا وشرق أوروبا، ونشوء المشروع الصهيوني، أخذت أعداد متزايدة من اليهود بالهجرة والاستيطان المنظم في فلسطين، خصوصاً منذ العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر. وبدأوا بإنشاء مستوطنات زراعية مثل بتاح تكفا (التي أسست عام 1878 وفشلت ثم أعيد تأسيسها 1882)، وريشيون ليتسيون، وزخرون يعقوب 1882. ثم تتابع إنشاء المستوطنات بدعم من المليونير اليهودي روتشيلد، والصندوق القومي اليهودي (الكيرين كايميت)، الذي أنشأته المنظمة الصهيونية العالمية. ومع نهاية عهد الدولة العثمانية في فلسطين سنة 1917 ـ 1918، كان اليهود يملكون 420 ألف دونم (الدونم يساوي ألف متر مربع) من الأراضي أي 1.56% من مساحة فلسطين، وهي من أراضي الدولة الأميرية التي حصلوا عليها بحجة استصلاحها وتأسيس مدارس زراعية أو بالشراء أحياناً، واستفادوا من الفساد في الجهاز الإداري العثماني في تلك الفترة، واستخدموا أساليب الرشوة والخداع لتحقيق مآربهم[59].
استولى اليهود خلال فترة الاستعمار البريطاني لفلسطين وتحت رعايته 1917- 1948 على مساحات أخرى تقدر بمليون و380 ألف دونم ، ووصل مجموع مساحة الأرض التي استولى عليها اليهود بمختلف الطرق حتى عام 1948 إلى حوالي مليون و 800 ألف دونم أي 6.67% من مساحة فلسطين، أقاموا عليها 291 مستوطنة، وقد أعطى قرار الأمم المتحدة 181 بتقسيم فلسطين والصادر في 29 نوفمبر 1947 اليهود نحو 54%، بينما أعطى العرب نحو 45%، وجعل منطقة القدس منطقة تحت إشراف دولي على 1% من أرض فلسطين[60].
وخلال حرب فلسطين 1948 تمكنت القوات اليهودية من احتلال نحو 77% من أرض فلسطين (20770كم2)، ولم يبق من فلسطين سوى الضفة الغربية (5876 كم2)، وقطاع غزة (363كم2). وقد دمر الكيان الصهيوني معظم القرى الفلسطينية التي وقعت تحت سيطرته وهجر أهلها وبلغت القرى المدمرة على 478 قرية من أصل 585 قرية كانت قائمة في الأرض المحتلة سنة 1948. وبنى اليهود مستعمرات جديدة في الأرض المحتلة سنة 1948 حتى بلغت 756 مستعمرة سنة 1985. كما قاموا بالاستيلاء على ممتلكات من بقي من العرب فاستولوا على 62 قرية أخرى وشردوا سكانها، وطردوا الآلاف من بدو النقب وصادروا أكثر من مليوني دونم من أراضيهم، كما صادروا معظم الأوقاف الإسلامية ووضعوها تحت تصرفهم. ولم يبق تحت تصرف أبناء فلسطين العرب في الأرض المحتلة سنة 1948 سوى نحو 4% من الأرض، لازال اليهود يحاولون انتزاعها بالتدرج وبشتى الوسائل[61].
وخلال حرب الأيام الستة في يونيو 1967 تمكن الكيان الصهيوني من احتلال باقي فلسطين (الضفة الغربية وغزة)، فضلاً عن احتلاله لشبه جزيرة سيناء من مصر، ولهضبة الجولان السورية. وقد واصل اليهود سياسة الاستيطان والاستيلاء على الأرض فأعلنوا ضم منطقة القدس الشرقية (حيث المسجد الأقصى) ضماً أبدياً للكيان الصهيوني، وأعدوا مشروعاً كبيراً لإنشاء القدس الكبرى بحث تغطي 20% من أرض الضفة الغربية. وخلال عشرين عاماً 1967 ـ 1987 قام الكيان الصهيوني بمصادرة 3.179.215دونم، وفي الفترة 1988 ـ 1997 ضم حوالي 512 ألف دونم أخرى، وفي السنتين الأخيرتين من القرن العشرين ضم حوالي 150 ألف دونم، ليصبح مجموع الأراضي المصادرة من الضفة ثلاثة ملايين و 841 ألف دونم، أي نحو 62% من مجموع مساحة الضفة والقطاع. (منها نحو 3 ملايين و 686 ألف دونم في الضفة أي 62.7% من مساحتها، و 155 ألف دونم في القطاع، أي 43% من مساحته)[62].
وفي شرقي القدس أقام اليهود أكثر من عشرة أحياء سكنية يسكنها نحو 190 ألف مستوطن حتى زادوا عن أعداد العرب في القدس الشرقية، كما أقاموا أكثر من 160 مستوطنة في باقي الضفة الغربية مزودة بالطرق والخدمات الحديثة حتى بدت المدن والقرى الفلسطينية جزراً معزولة وأشلاء مقطعة في بحر الاستيطان المتلاطم، ويسكن في هذه المستوطنات نحو 200 ألف مستوطن حسب تقديرات سنة 2000. وفي قطاع غزة أنشأ اليهود 16 مستعمرة يسكنها نحو خمسة آلاف مستوطن، ولا تزال مشاريع الاستيطان وتوسيع المستعمرات قائمة على قدم وساق غير آبهة بالتسوية السلمية التي وقعت مع منظمة التحرير الفلسطينية في سبتمبر 1993[63].
بعد حوالي سبع سنوات من توقيع اتفاقيات الحكم الذاتي بين الكيان الإسرائيلي ومنظمة التحرير الفلسطينية فإن جل ما حصل عليه الفلسطينيون حتى مارس 2001 لا يتجاوز 17% أي نحو 1000 كم2 من أرض الضفة الغربية وهناك 25% أخرى تخضع للسيطرة المشتركة من الجانبين (مناطق ب)، ولا زال 58% من أرض الضفة تحت السيطرة الكاملة لليهود، وتسيطر السلطة الفلسطينية على نحو 55% حوالي (200 كم2) من أرض القطاع، وبذلك يبلغ مجموع ما تسيطر عليه فعلياً من الأرض حوالي 1200 كم2 أي 4.4 % من كل أرض فلسطين.
لقد أخرجت اتفاقات التسوية الأراضي المحتلة سنة 1948 من دائرة المناقشة وأقرت ملكيتها للكيان الصهيوني، وانحصرت دائرة النقاش في أرض الضفة الغربية والقطاع، وبانتظار اتفاقات التسوية النهائية حول الأرض والمستوطنات فإن الصهاينة يوجدون كل يوم واقعاً جديداً ينهب الأرض وخيراتها، حتى يخشى ألا تجد السلطة الفلسطينية ما تفاوض عليه بعد ذلك. وكان العرض الإسرائيلي المبدئي للتسوية النهائية يقترح (بعد استثناء منطقة القدس التي ضمها) إعطاء 50% مما تبقى من الضفة الغربية للفلسطينيين، وضم 10% نهائياً للكيان الإسرائيلي وإبقاء 40% معلقاً لمفاوضات لاحقة، مع الإصرار على احتفاظ اليهود بالمستوطنات حتى لو تحولت إلى مناطق تحت سيطرة السلطة الفلسطينية. وفي مفاوضات كامب ديفيد في يوليو 2000 عرض الجانب الإسرائيلي تسليم أكثر من 90% من الضفة الغربية لكن عدم الاتفاق حول مستقبل القدس واللاجئين الفلسطينيين أفشل المفاوضات. وعندما تسلم شارون رئاسة الوزراء في مارس 2001 عاد مرة أخرى ليعرض على الفلسطينيين 42% فقط من أرض الضفة الغربية، وليستمر في سياسة التوسع الاستيطاني وضم الأراضي الفلسطينية.
http://www.elfajre.com/
ردحذف